البيع والشراء بالتقسيط توضيح نواحي اخرى
البيع والشراء بالتقسيط
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى سواء السبيل، الفعَّال لما يريد، خلق فسوّى، وقدّر فهدى، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين والأنبياء، محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وعلى أصحابه أجمعين، وعلى التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فلقد كثر التعامل في زماننا هذا ببيع التقسيط مع زيادة في ثمن السلعة عن سعرها فيما إذا كان الثمن معجلاً، وقد توسع التعامل بالتقسيط حتى دخل في كثير من صور البيع، كبيع الملابس والأحذية والأثاث والأراضي والعقارات والسيارات والتلفونات وسائر الالكترونيات...، كما دخل التقسيط في الإجارة كعمليات بناء أو صيانة المنازل أو المدارس أو الجسور...، وكذا صيانة السيارات أو الآلات الالكترونية...، كما دخل التقسيط في التعليم كالمدارس والمعاهد والجامعات الخاصة، وكذا الدروس الخصوصية، بل ربما اقترض بعضهم مالاً؛ لغرض الحج على أن يسدده بالتقسيط...
وقد ساعد على اتساع رقعة التعامل بالتقسيط كثرة احتياجات الناس وكثرة متطلباتهم ونفقاتهم مع قلة دخل الفرد منهم، وقلة من يجده المرء من الناس ليستدين منهم.
فكثر السؤال عن التعامل بالتقسيط ومدى مشروعيته وانطلق العلماء في الإجابة عن هذا السؤال بين مجيز -وهم الأكثر- وبين محرِّم -وهم الأقل- وهذه المسألة وإن كانت غير جديدة إلا أن الجديد هو اتساعها وكثرة احتياج الناس لها ودخولها في المنظومة الاقتصادية للدول؛ لأنها مما يساعد على كثرة التداول للسلع، وبالتالي يتقوّى الاقتصاد.
والواقع أن بيع التقسيط قد تركب من مسائل، وهي:
1. حكم دفع الثمن على أقساط مجرداً.
2. حكم الأجل في دفع ثمن السلعة مجرداً.
3. حكم الزيادة في ثمن السلعة مجرداً.
4. حكم المزج بين الثلاث المتقدمة، وهو المسمى ببيع التقسيط.
ولذا فسأتكلم عن هذه المسألة بالنظر إلى هذه الجهات، ولكن قبل ذلك لا بد من بعض المقدمات، وسيكون بحث هذه المسألة كالآتي:
1. تعريف البيع.
2. تعريف التقسيط.
3. حكم دفع الثمن على أقساط مجرداً.
4. مدى مشروعية الأجل في البيع مجرداً.
5. حكم الزيادة في ثمن السلعة مجرداً.
6. حكم بيع التقسيط.
تعريف البيع:
قال في المصباح المنير: (بَاعَهُ يَبِيعُهُ بَيْعاً وَمَبِيعًا، فَهُوَ بَائِعٌ وَبَيِّعٌ، وَأَبَاعَهُ -بِالْأَلِفِ- لُغَةٌ. قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّاعِ. وَالْبَيْعُ مِنْ الْأَضْدَادِ، مِثْلُ: الشِّرَاءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنَّهُ بَائِعٌ، وَلَكِنْ إذَا أُطْلِقَ الْبَائِعُ، فَالْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ بَاذِلُ السِّلْعَةِ، وَيُطْلَقُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَبِيعِ، فَيُقَالُ: بَيْعٌ جَيِّدٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى بُيُوعٍ...، وَالْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ؛ لِقَوْلِهِمْ بَيْعٌ رَابِحٌ، وَبَيْعٌ خَاسِرٌ، وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي وَصْفِ الْأَعْيَانِ لَكِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ)(1). وقال ابن منظور: (البيعُ ضدّ الشراء، والبَيْع: الشراء أَيضاً، وهو من الأَضْداد، وبِعْتُ الشيء شَرَيْتُه أَبيعُه بَيْعاً ومَبيعاً، وهو شاذ، وقياسه مَباعاً. والابْتِياعُ: الاشْتراء، وابْتاعَ الشيءَ اشتراه وأَباعه: عَرَّضه للبيع، واسْتَبَعْتُه الشيء، أَي سأَلْتُه أَن يبِيعَه مني، وكلُّ من البائع والمشتري بائع وبَيِّع. والجمع بُيُوع. والبِياعاتُ الأَشياء التي يُتَبايَعُ بها في التجارة)(2).
تعريف التقسيط:
قال ابن منظور: (والقِسْطُ: الحِصَّةُ والنَّصِيبُ. يقال: أَخذ كل واحد من الشركاء قِسْطَه، أَي حِصَّتَه، وكلُّ مِقدار فهو قِسْطٌ في الماء وغيره، وتقَسَّطُوا الشيءَ بينهم: تقسَّمُوه على العَدْل والسَّواء)(3)، وقال المرتضى الزبيدي: (ونَصُّ ابنِ الأَعْرَابِيِّ في النّوادِرِ: قَسَّطَ الشَّيْءَ تَقْسِيطاً: فَرَّقَه)(4).
حكم دفع الثمن على أقساط مجرداً:
ورد في النصوص الشرعية ما يدل على جواز دفع الثمن على أقساط في البيع والشراء، وذلك في المكاتبة، كما ورد ذلك في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءتني بريرة، فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواقٍ، في كل عام أوقية، فأعينيني. فقلت: إن أحب أهلك أن أعُدّها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت؟ فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم، فأبوا ذلك عليها، فجاءت من عندهم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا، إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرت عائشة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «خذيها، واشترطي لهم الولاء؛ فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد! ما بال رجال يشترطون شروطاً، ليست في كتاب الله؟! ما كان من شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط؛ قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق»(5)، وهذه المكاتبة هي في الحقيقة بيع بالتقسيط، ولم ينه عن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بل علّم عائشة كيف تصنع؟ وأما كون عائشة اشترتها نقداً من دون تقسيط، فليس هذا دليلاً على الامتناع، بل دليل على جواز الشراء نقداً، وليس المراد من الاستدلال بهذا الحديث إيجاب التقسيط بل جوازه، وهذا واقع بإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ما أردت.
فإن قيل: إن الحديث قد دل على جواز بيع العبيد -فقط- بالتقسيط، ولم يدل على ما سواهم. فالجواب: إن الحديث لم يدل على أن هذا الحكم خاصٌ ببيع العبيد. ومن ادعى الخصوصية فعليه بالدليل. ثم إن الجواز يمكن أن يستفاد من أمر أخر، وهو القياس، وذلك بقياس بيع سائر السلع على بيع العبيد، في الجواز، بجامع التخفيف والتيسير على الناس، وبأن الكل بيع.
مدى مشروعية الأجل في البيع مجرداً:
البيع من حيث التأجيل وعدمه لا يخرج من أربع حالات:
1. أن يكون الثمن مؤجلاً والسلعة مؤجلة: وهذا هو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ»(6)، وبيع الكالئ بالكالئ هو: (أن يبيع الرجل دَيناً له على رجل بدَين على رجل آخر)(7). وليس التأجيل في بيع التقسيط من بيع الكالئ بالكالئ؛ لأن السلعة معجلة.
2. أن يكون الثمن معجلاً والسلعة معجلة: واشتراط هذا، أعني كون الثمن معجلاً والسلعة معجلة، غير واقعٍ، إلا ما في الربويات التي جاء ذكرها في حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء»(8)، وعن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-:«ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء عيناً بعين؛ فمن زاد أو ازداد فقد أربى»(9). وعلى ذلك فالتأجيل في بيع التقسيط فيما سوى هذه الربويات وما يجري مجراها، كالأراضي والعقارات والسيارات والالكترونيات...، غير محرم؛ لأنه غير داخل في النص، وغير داخل في القياس.
3. أن يكون الثمن معجلاً والسلعة مؤجلة: وهذا هو المعروف في كتب الفقه بالسَّلَم، وهو الوارد جوازه في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»(10). ومعنى الحديث كما قال ابن منظور: (أَن يُسْلِفَ مثلاً في بُرَ فيعطيه المُسْتَلِف غيرَه من جنس آخر، فلا يجوز له أَن يأْخذه)(11). قال الصاحب بن عباد: (والسلَمُ: ما أسْلَفْتَ فيه)(12)، وقال ابن منظور: (السَّلَمُ -بالتحريك- السَّلَفُ، أَسْلَمَ في الشيء، سَلَّمَ وأَسْلَف، بمعنى واحد، والاسم: السَّلَمُ. وكان راعيَ غَنَمٍ ثم أَسلم، أَي تركها، كذا جاء أَسْلَم هنا غير مُتَعَدَ، وفي حديث خُزَيْمَةَ: «مَنْ تَسَلَّم في شيء فلا يَصْرِفْه إِلى غيره»، يقال: أَسْلَمَ سَلَّمَ، إِذا أَسْلَفَ، وهو أَن تعطي ذهباً وفضة في سِلْعةٍ معلومة إِلى أَمَدٍ معلوم، فكأَنك قد أَسْلَمْتَ الثمن إِلى صاحب السِّلْعَةِ، سَلَّمْتَهُ إِليه. قال الجوهري: أَسْلَمَ الرجل في الطعام أَي أَسلف فيه)(13). وقال المرتضى الزَّبيدي: (والسلم، بالتحريك: السلف، وقد أسلم وأسلف، بمعنى واحد)(14). ولا شك أن بيع التقسيط غير داخل في بيع السلم؛ لأن الثمن في السلم معجل، بخلاف التقسيط.
قال البهوتي: (هو عقد على موصوف ينضبط بالصفة في الذمة)(15)، وقال الشربيني: (وهو بيع شيء موصوف في الذمة)(16)، وقال ابن قدامة: (هو أن يسلم عيناً حاضرة في عوض موصوف في الذمة إلى أجل)(17).
4. أن يكون الثمن مؤجلاً والسلعة معجلة: وقد ورد ما يشير إلى جواز ذلك في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-:«أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فضربه، فدعا له، فسار بسير ليس يسير مثله، ثم قال: "بعنيه بوقية. قلت: لا. ثم قال: بعنيه بوقية. فبعته، فاستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا أتيته بالجمل، ونقدني ثمنه، ثم انصرفت فأرسل على إثري، قال: ما كنت لآخذ جملك، فخذ جملك ذلك، فهو مالك»(18). وهذه الصورة قد دلت على جواز أن يكون الثمن مؤجلاً، كما أشارت إلى جواز أن تكون السلعة معجلة، وهو ما يجري في بيع التقسيط. ووجه الدلالة من ذلك أن السلعة كانت موجودة وقت البيع، إلا أن جابراً اشترط تأخير تسليمها على خلاف الأصل، إذ الأصل أن يتم تسليمها حال العقد ما دامت موجودة دل على ذلك قول جابر: "فاستثنيت حملانه إلى أهلي" والاستثناء يدل على أن الأصل بخلافه. فلو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أبى أن يؤخر التسليم لكان لزاماً على جابر أن يسلم السلعة في الحال، ما دام قد قبل بتأجيل الثمن؛ لأن الأصل معه صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل الأحوال فحديث جابر قد دل على جواز أن يكون الثمن مؤجلاً، وهو ما يجري في بيع التقسيط؛ وعلى ذلك يقال: إن التقسيط من حيث هو تأجيل للثمن لا حرج فيه.
حكم الزيادة في ثمن السلعة مجرداً:
وأما الزيادة -على الجملة- في ثمن السلعة عن سعرها الأصلي، فقد ورد ما يدل على جواز ذلك في مسند أحمد عن الصنابحي قال: «رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إبل الصدقة ناقة مُسِنَّة، فغضب، وقال: "ما هذه؟"، فقال: يا رسول الله! إني ارتجعتها ببعيرين من حاشية الصدقة، فسكت»(19)، وفي رواية: «قال: صاحب الصدقة إني ارتجعتها ببعيرين من حواشي الإبل. قال: فقال: "نعم إذاً»(20)، فكان هذا إقرار من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دل على جواز الزيادة في الثمن.
ومثله ما جاء في حديث عروة البارقي -رضي الله عنه- قال: «دفع إليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ديناراً؛ لأشتري له شاة، فاشتريت له شاتين، فبعت إحداهما بدينار، وجئت بالشاة والدينار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر له ما كان من أمره، فقال له: "بارك الله لك في صفقة يمينك، فكان يخرج بعد ذلك إلى كناسة الكوفة، فيربح الربح العظيم، فكان من أكثر أهل الكوفة مالاً»(21). فإما أن يكون ثمن الشاة الأصلي نصف دينار، وعليه فيكون بيعه للشاة الثانية قد وقع بزيادة عن ثمنها الأصلي، وهو عين ما أردتُّ الاستدلال له. وإما أن يكون ثمن الشاة الأصلي دينار، وعليه فيكون شراؤه للشاتين بدينار قد وقع بنقص عن سعرها الأصلي بمقدار النصف، وهذا أيضاً يدل على جواز البيع بزيادة عن الثمن الأصلي بطريق القياس العكسي، فإنّا إذا صححنا البيع بالنقص، وهو مصلحة للمشتري، فيلزمنا على ذلك أن نصحح البيع بالزيادة، وهو مصلحة للبائع، وليست مصلحة المشتري في النقص، بأولى من مصلحة البائع في الزيادة.
كما يُستأنس بما ورد عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- مما يدل على جواز شراء الحيوان بالحيوان مع الزيادة في الثمن، فقد اشترى ابن عمر -رضي الله عنهما- راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه، يوفيها صاحبها بالربذة، واشترى رافع بن خديج -رضي الله عنه- بعيراً ببعيرين، فأعطاه أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غداً، إن شاء الله، وقال ابن المسيب: لا ربا في الحيوان البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين إلى أجل، وقال ابن سيرين: لا بأس بعير ببعيرين نسيئة(22)، وعن علي -رضي الله عنه- قال: لا يصلح الحيوان بالحيوانين، ولا الشاة بالشاتين إلا يداً بيد، وعن عبد العزيز بن رفيع عن محمد بن علي ابن الحنفية قال: قلت له: أبيع بعيراً ببعيرين إلى أجل؟ قال: لا، ولا بأس به يداً بيد، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لا بأس أن يقول للسلعة: هي بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقا، إلا عن رضا.(23) وهذه الآثار كلها قد دلت على جواز الزيادة في الثمن، وإن كان فيها ما يدل على الاختلاف في جواز النسيئة، فإنما مردُّ ذلك إلى اختلافهم في كون الحيوان بالحيوان من الربويات أم لا، وليس هذا المقام للكلام عن الربويات.
حكم بيع التقسيط:
من خلال ما سبق يتبين لنا جواز جزئيات بيع التقسيط بالنظر إليها مجردة عن بعضها بعضاً، وهنا سيتم النظر إليها مركبة مع بعضها، فيما يعرف ببيع التقسيط.
ومن خلال النظر في الأدلة يمكن أن نخلص إلى جواز بيع التقسيط للآتي:
1. حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة»(24)، والحديث له ألفاظ أتمها رواية أحمد والبيهقي، وهي هكذا: عن عمرو بن حريش الزبيدي عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قلت يا أبا محمد! إنا بأرض لسنا نجد بها الدينار والدرهم، وإنما أموالنا المواشي، فنحن نتبايعها بيننا، فنبتاع البقرة بالشاة نظرة إلى أجل، والبعير بالبقرات، والفرس بالأباعر، كل ذلك إلى أجل. فهل علينا في ذلك من بأس؟ فقال: على الخبير سقطت. «أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أبعث جيشاً على إبل كانت عندي. قال: فحملت الناس عليها، حتى نفدت الإبل، وبقيت بقية من الناس. قال: فقلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله! الإبل قد نفدت، وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم؟ قال: فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ابتع علينا إبلاً بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها، حتى ننفذ هذا البعث. قال: فكنت أبتاع البعير بالقلوصين، والثلاث من إبل الصدقة إلى محلها، حتى نفذت ذلك البعث. قال: فلما حلت الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم»(25). والحديث صريح في اجتماع الزيادة في الثمن مع الأجل في نفس البيع، وهو ما يجري في بيع التقسيط.
2. عموم ما تقدم في قصة بريرة حيث دل الحديث بعمومه على جواز بيع التقسيط بغض النظر عن وجود زيادة في الثمن أم لا، إذ لو كانت الزيادة مع الأجل محرمة لاستفصل النبي- صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال، ينـزل منـزلة العموم في المقال.
3. عموم ما تقدم في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» فقد دل بعمومه على جواز الزيادة في الثمن، إذ لم يشترط النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون السلم بالسعر الأصلي من دون زيادة، وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم ببيان أن يكون الوزن والكيل معلوماً في السلم، والأجل كذلك. وقد وجد في السلم الأجل، وسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مقدار الثمن، فدل على جواز أن يكون الثمن زائداً، إذ لو كان ذلك محرماً لبيَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولما أخّر بيان ذلك، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.
4. الأصل هو الجواز إلا ما جاء النص بمنعه، ولم يأت هنا.
ولكن ينبغي أن يُقيَّد هذا الجواز بشروط وضوابط، هي:
شروط وضوابط لجواز بيع التقسيط مع الزيادة في الثمن:
1. أن يكون البيع مستوفياً لشروطه، من التراضي بين الطرفين، ومن تملك كل منهما لما تحت يده، أو يكون موكلاً بالتبايع به، ومن معرفة الثمن والسلعة.
2. أن يكون هذا البيع واقعاً في السلع التي أحل الله -عز وجل- بيعها وشراءها.
3. أن يكون الثمن معلوماً عند عقد البيع، وكذا الأقساط والأجل.
4. أن يكون الثمن غير قابل للزيادة، إذا تأخر المشتري عن تسليم الأقساط، وإلا كان ذلك من الربا، ولكان هذا داخلاً في النهي عن بيعتين في بيعة.
5. إذا كان المشتري سيعجل الأقساط، فلا يجوز له أن يشترط على البائع أن يضع عنه شيئاً من الزيادة المتفق عليه، وهذه المسألة هي التي تسمى عند العلماء بمسألة ضع وتعجل، وإلا كان ذلك مؤدياً إلى عدم الجزم بالثمن، ولكان داخلاً أيضاً في النهي عن بيعتين في بيعة.
والله تعالى أعلى وأعلم، وهو الموفق للصواب.
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي: علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس.
الاثنين14- ذو القعدة 1427هـ، 4/ 12/ 2006م.
مراجعة: علي عمر بلعجم.20/ 12/ 2006م.
___________________
(1) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 422).
(2) لسان العرب (8/ 23)، وانظر: الصحاح في اللغة (1/ 60).
(3) لسان العرب (7/ 377).
(4) تاج العروس (1/ 4968)، لسان العرب (7/ 377).
(5) صحيح البخاري 7/ 386، برقم: 2023، صحيح مسلم 8/ 9، برقم: 2762.
(6) سنن الدارقطني 3/ 71، برقم: 269، قال الألباني في إرواء الغليل (5/ 220): ضعيف.
(7) الاستذكار (6/ 441) قال أَبو عبيدة يعني النَّسِيئةَ بالنَّسِيئةِ، وكَلأَ الدَّيْنُ أَي: تَأَخَّر كَلأً، والكالِئُ والكُلأَة: النَّسيِئة والسُّلْفةُ. انظر: لسان العرب (1/ 145).
(8) صحيح البخاري 7/ 334، برقم: 1990، صحيح مسلم 8/ 257، برقم: 2968.
(9) صحيح مسلم 8/ 258، برقم: 2969.
(10) صحيح البخاري 7/ 492، برقم: 2086، صحيح مسلم 8/ 309، برقم: 3010.
(11) لسان العرب (12/ 289).
(12) المحيط في اللغة (2/ 265).
(13) لسان العرب (12/ 289).
(14) تاج العروس (1/ 7757).
(15) الروض المربع (2/ 136).
(16) مغني المحتاج (2/ 102).
(17) الكافي في فقه ابن حنبل (2/ 62).
(18) صحيح البخاري 9/ 233، برقم: 2517، صحيح مسلم 8/ 292، برقم: 2997.
(19) مسند أحمد 39/ 75، برقم: 18286 عن خالد بن سعيد، والحديث مرسل، وقد خلص شعيب الأرنؤوط إلى أن الصنابحي هذا هو أبو عبد الله، وأنه تابعي، وهو غير الصنابح بن الأعسر الصحابي، ثم قال في تحقيقه للمسند (31/ 414، برقم: 19066) أن خالداً في هذا السند تحريف وأورده بلفظ مجالد فقال: في (م) خالد، وهو تحريف.
(20) السنن الكبرى للبيهقي (4/ 113)، مصنف ابن أبي شيبة (3/ 18) عن مجالد بن سعيد، قال أحمد بن حنبل: ليس بشيء يرفع حديثاً كثيراً لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: لا يحتج بحديثه، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: ضعيف، واهي الحديث، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبي عن مجالد بن سعيد، يحتج بحديثه؟ قال: لا، وقال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: ليس بالقوي. انظر: تهذيب الكمال (27/ 222).
(21) سنن الترمذي 5/ 48، برقم: 1179، سنن أبي داود 9/ 230، برقم: 2937، قال الألباني: صحيح. انظر: إرواء الغليل 5/ 128، برقم: 1287.
(22) انظر: صحيح البخاري (7/ 473).
(23) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 52) وما بعدها.
(24) سنن أبي داود (9/ 194)، برقم: 2913، المستدرك على الصحيحين للحاكم (5/ 449)، برقم: 2300. وضعفه الألباني في وضعيف سنن أبي داود (7/ 357)، برقم: 3357.
(25) مسند أحمد (14/ 267) برقم 6729، السنن الكبرى
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى سواء السبيل، الفعَّال لما يريد، خلق فسوّى، وقدّر فهدى، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين والأنبياء، محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وعلى أصحابه أجمعين، وعلى التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فلقد كثر التعامل في زماننا هذا ببيع التقسيط مع زيادة في ثمن السلعة عن سعرها فيما إذا كان الثمن معجلاً، وقد توسع التعامل بالتقسيط حتى دخل في كثير من صور البيع، كبيع الملابس والأحذية والأثاث والأراضي والعقارات والسيارات والتلفونات وسائر الالكترونيات...، كما دخل التقسيط في الإجارة كعمليات بناء أو صيانة المنازل أو المدارس أو الجسور...، وكذا صيانة السيارات أو الآلات الالكترونية...، كما دخل التقسيط في التعليم كالمدارس والمعاهد والجامعات الخاصة، وكذا الدروس الخصوصية، بل ربما اقترض بعضهم مالاً؛ لغرض الحج على أن يسدده بالتقسيط...
وقد ساعد على اتساع رقعة التعامل بالتقسيط كثرة احتياجات الناس وكثرة متطلباتهم ونفقاتهم مع قلة دخل الفرد منهم، وقلة من يجده المرء من الناس ليستدين منهم.
فكثر السؤال عن التعامل بالتقسيط ومدى مشروعيته وانطلق العلماء في الإجابة عن هذا السؤال بين مجيز -وهم الأكثر- وبين محرِّم -وهم الأقل- وهذه المسألة وإن كانت غير جديدة إلا أن الجديد هو اتساعها وكثرة احتياج الناس لها ودخولها في المنظومة الاقتصادية للدول؛ لأنها مما يساعد على كثرة التداول للسلع، وبالتالي يتقوّى الاقتصاد.
والواقع أن بيع التقسيط قد تركب من مسائل، وهي:
1. حكم دفع الثمن على أقساط مجرداً.
2. حكم الأجل في دفع ثمن السلعة مجرداً.
3. حكم الزيادة في ثمن السلعة مجرداً.
4. حكم المزج بين الثلاث المتقدمة، وهو المسمى ببيع التقسيط.
ولذا فسأتكلم عن هذه المسألة بالنظر إلى هذه الجهات، ولكن قبل ذلك لا بد من بعض المقدمات، وسيكون بحث هذه المسألة كالآتي:
1. تعريف البيع.
2. تعريف التقسيط.
3. حكم دفع الثمن على أقساط مجرداً.
4. مدى مشروعية الأجل في البيع مجرداً.
5. حكم الزيادة في ثمن السلعة مجرداً.
6. حكم بيع التقسيط.
تعريف البيع:
قال في المصباح المنير: (بَاعَهُ يَبِيعُهُ بَيْعاً وَمَبِيعًا، فَهُوَ بَائِعٌ وَبَيِّعٌ، وَأَبَاعَهُ -بِالْأَلِفِ- لُغَةٌ. قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّاعِ. وَالْبَيْعُ مِنْ الْأَضْدَادِ، مِثْلُ: الشِّرَاءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنَّهُ بَائِعٌ، وَلَكِنْ إذَا أُطْلِقَ الْبَائِعُ، فَالْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ بَاذِلُ السِّلْعَةِ، وَيُطْلَقُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَبِيعِ، فَيُقَالُ: بَيْعٌ جَيِّدٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى بُيُوعٍ...، وَالْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ؛ لِقَوْلِهِمْ بَيْعٌ رَابِحٌ، وَبَيْعٌ خَاسِرٌ، وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي وَصْفِ الْأَعْيَانِ لَكِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ)(1). وقال ابن منظور: (البيعُ ضدّ الشراء، والبَيْع: الشراء أَيضاً، وهو من الأَضْداد، وبِعْتُ الشيء شَرَيْتُه أَبيعُه بَيْعاً ومَبيعاً، وهو شاذ، وقياسه مَباعاً. والابْتِياعُ: الاشْتراء، وابْتاعَ الشيءَ اشتراه وأَباعه: عَرَّضه للبيع، واسْتَبَعْتُه الشيء، أَي سأَلْتُه أَن يبِيعَه مني، وكلُّ من البائع والمشتري بائع وبَيِّع. والجمع بُيُوع. والبِياعاتُ الأَشياء التي يُتَبايَعُ بها في التجارة)(2).
تعريف التقسيط:
قال ابن منظور: (والقِسْطُ: الحِصَّةُ والنَّصِيبُ. يقال: أَخذ كل واحد من الشركاء قِسْطَه، أَي حِصَّتَه، وكلُّ مِقدار فهو قِسْطٌ في الماء وغيره، وتقَسَّطُوا الشيءَ بينهم: تقسَّمُوه على العَدْل والسَّواء)(3)، وقال المرتضى الزبيدي: (ونَصُّ ابنِ الأَعْرَابِيِّ في النّوادِرِ: قَسَّطَ الشَّيْءَ تَقْسِيطاً: فَرَّقَه)(4).
حكم دفع الثمن على أقساط مجرداً:
ورد في النصوص الشرعية ما يدل على جواز دفع الثمن على أقساط في البيع والشراء، وذلك في المكاتبة، كما ورد ذلك في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءتني بريرة، فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواقٍ، في كل عام أوقية، فأعينيني. فقلت: إن أحب أهلك أن أعُدّها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت؟ فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم، فأبوا ذلك عليها، فجاءت من عندهم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا، إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرت عائشة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «خذيها، واشترطي لهم الولاء؛ فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد! ما بال رجال يشترطون شروطاً، ليست في كتاب الله؟! ما كان من شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط؛ قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق»(5)، وهذه المكاتبة هي في الحقيقة بيع بالتقسيط، ولم ينه عن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بل علّم عائشة كيف تصنع؟ وأما كون عائشة اشترتها نقداً من دون تقسيط، فليس هذا دليلاً على الامتناع، بل دليل على جواز الشراء نقداً، وليس المراد من الاستدلال بهذا الحديث إيجاب التقسيط بل جوازه، وهذا واقع بإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ما أردت.
فإن قيل: إن الحديث قد دل على جواز بيع العبيد -فقط- بالتقسيط، ولم يدل على ما سواهم. فالجواب: إن الحديث لم يدل على أن هذا الحكم خاصٌ ببيع العبيد. ومن ادعى الخصوصية فعليه بالدليل. ثم إن الجواز يمكن أن يستفاد من أمر أخر، وهو القياس، وذلك بقياس بيع سائر السلع على بيع العبيد، في الجواز، بجامع التخفيف والتيسير على الناس، وبأن الكل بيع.
مدى مشروعية الأجل في البيع مجرداً:
البيع من حيث التأجيل وعدمه لا يخرج من أربع حالات:
1. أن يكون الثمن مؤجلاً والسلعة مؤجلة: وهذا هو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ»(6)، وبيع الكالئ بالكالئ هو: (أن يبيع الرجل دَيناً له على رجل بدَين على رجل آخر)(7). وليس التأجيل في بيع التقسيط من بيع الكالئ بالكالئ؛ لأن السلعة معجلة.
2. أن يكون الثمن معجلاً والسلعة معجلة: واشتراط هذا، أعني كون الثمن معجلاً والسلعة معجلة، غير واقعٍ، إلا ما في الربويات التي جاء ذكرها في حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء»(8)، وعن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-:«ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء عيناً بعين؛ فمن زاد أو ازداد فقد أربى»(9). وعلى ذلك فالتأجيل في بيع التقسيط فيما سوى هذه الربويات وما يجري مجراها، كالأراضي والعقارات والسيارات والالكترونيات...، غير محرم؛ لأنه غير داخل في النص، وغير داخل في القياس.
3. أن يكون الثمن معجلاً والسلعة مؤجلة: وهذا هو المعروف في كتب الفقه بالسَّلَم، وهو الوارد جوازه في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»(10). ومعنى الحديث كما قال ابن منظور: (أَن يُسْلِفَ مثلاً في بُرَ فيعطيه المُسْتَلِف غيرَه من جنس آخر، فلا يجوز له أَن يأْخذه)(11). قال الصاحب بن عباد: (والسلَمُ: ما أسْلَفْتَ فيه)(12)، وقال ابن منظور: (السَّلَمُ -بالتحريك- السَّلَفُ، أَسْلَمَ في الشيء، سَلَّمَ وأَسْلَف، بمعنى واحد، والاسم: السَّلَمُ. وكان راعيَ غَنَمٍ ثم أَسلم، أَي تركها، كذا جاء أَسْلَم هنا غير مُتَعَدَ، وفي حديث خُزَيْمَةَ: «مَنْ تَسَلَّم في شيء فلا يَصْرِفْه إِلى غيره»، يقال: أَسْلَمَ سَلَّمَ، إِذا أَسْلَفَ، وهو أَن تعطي ذهباً وفضة في سِلْعةٍ معلومة إِلى أَمَدٍ معلوم، فكأَنك قد أَسْلَمْتَ الثمن إِلى صاحب السِّلْعَةِ، سَلَّمْتَهُ إِليه. قال الجوهري: أَسْلَمَ الرجل في الطعام أَي أَسلف فيه)(13). وقال المرتضى الزَّبيدي: (والسلم، بالتحريك: السلف، وقد أسلم وأسلف، بمعنى واحد)(14). ولا شك أن بيع التقسيط غير داخل في بيع السلم؛ لأن الثمن في السلم معجل، بخلاف التقسيط.
قال البهوتي: (هو عقد على موصوف ينضبط بالصفة في الذمة)(15)، وقال الشربيني: (وهو بيع شيء موصوف في الذمة)(16)، وقال ابن قدامة: (هو أن يسلم عيناً حاضرة في عوض موصوف في الذمة إلى أجل)(17).
4. أن يكون الثمن مؤجلاً والسلعة معجلة: وقد ورد ما يشير إلى جواز ذلك في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-:«أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فضربه، فدعا له، فسار بسير ليس يسير مثله، ثم قال: "بعنيه بوقية. قلت: لا. ثم قال: بعنيه بوقية. فبعته، فاستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا أتيته بالجمل، ونقدني ثمنه، ثم انصرفت فأرسل على إثري، قال: ما كنت لآخذ جملك، فخذ جملك ذلك، فهو مالك»(18). وهذه الصورة قد دلت على جواز أن يكون الثمن مؤجلاً، كما أشارت إلى جواز أن تكون السلعة معجلة، وهو ما يجري في بيع التقسيط. ووجه الدلالة من ذلك أن السلعة كانت موجودة وقت البيع، إلا أن جابراً اشترط تأخير تسليمها على خلاف الأصل، إذ الأصل أن يتم تسليمها حال العقد ما دامت موجودة دل على ذلك قول جابر: "فاستثنيت حملانه إلى أهلي" والاستثناء يدل على أن الأصل بخلافه. فلو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أبى أن يؤخر التسليم لكان لزاماً على جابر أن يسلم السلعة في الحال، ما دام قد قبل بتأجيل الثمن؛ لأن الأصل معه صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل الأحوال فحديث جابر قد دل على جواز أن يكون الثمن مؤجلاً، وهو ما يجري في بيع التقسيط؛ وعلى ذلك يقال: إن التقسيط من حيث هو تأجيل للثمن لا حرج فيه.
حكم الزيادة في ثمن السلعة مجرداً:
وأما الزيادة -على الجملة- في ثمن السلعة عن سعرها الأصلي، فقد ورد ما يدل على جواز ذلك في مسند أحمد عن الصنابحي قال: «رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إبل الصدقة ناقة مُسِنَّة، فغضب، وقال: "ما هذه؟"، فقال: يا رسول الله! إني ارتجعتها ببعيرين من حاشية الصدقة، فسكت»(19)، وفي رواية: «قال: صاحب الصدقة إني ارتجعتها ببعيرين من حواشي الإبل. قال: فقال: "نعم إذاً»(20)، فكان هذا إقرار من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دل على جواز الزيادة في الثمن.
ومثله ما جاء في حديث عروة البارقي -رضي الله عنه- قال: «دفع إليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ديناراً؛ لأشتري له شاة، فاشتريت له شاتين، فبعت إحداهما بدينار، وجئت بالشاة والدينار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر له ما كان من أمره، فقال له: "بارك الله لك في صفقة يمينك، فكان يخرج بعد ذلك إلى كناسة الكوفة، فيربح الربح العظيم، فكان من أكثر أهل الكوفة مالاً»(21). فإما أن يكون ثمن الشاة الأصلي نصف دينار، وعليه فيكون بيعه للشاة الثانية قد وقع بزيادة عن ثمنها الأصلي، وهو عين ما أردتُّ الاستدلال له. وإما أن يكون ثمن الشاة الأصلي دينار، وعليه فيكون شراؤه للشاتين بدينار قد وقع بنقص عن سعرها الأصلي بمقدار النصف، وهذا أيضاً يدل على جواز البيع بزيادة عن الثمن الأصلي بطريق القياس العكسي، فإنّا إذا صححنا البيع بالنقص، وهو مصلحة للمشتري، فيلزمنا على ذلك أن نصحح البيع بالزيادة، وهو مصلحة للبائع، وليست مصلحة المشتري في النقص، بأولى من مصلحة البائع في الزيادة.
كما يُستأنس بما ورد عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- مما يدل على جواز شراء الحيوان بالحيوان مع الزيادة في الثمن، فقد اشترى ابن عمر -رضي الله عنهما- راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه، يوفيها صاحبها بالربذة، واشترى رافع بن خديج -رضي الله عنه- بعيراً ببعيرين، فأعطاه أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غداً، إن شاء الله، وقال ابن المسيب: لا ربا في الحيوان البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين إلى أجل، وقال ابن سيرين: لا بأس بعير ببعيرين نسيئة(22)، وعن علي -رضي الله عنه- قال: لا يصلح الحيوان بالحيوانين، ولا الشاة بالشاتين إلا يداً بيد، وعن عبد العزيز بن رفيع عن محمد بن علي ابن الحنفية قال: قلت له: أبيع بعيراً ببعيرين إلى أجل؟ قال: لا، ولا بأس به يداً بيد، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لا بأس أن يقول للسلعة: هي بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقا، إلا عن رضا.(23) وهذه الآثار كلها قد دلت على جواز الزيادة في الثمن، وإن كان فيها ما يدل على الاختلاف في جواز النسيئة، فإنما مردُّ ذلك إلى اختلافهم في كون الحيوان بالحيوان من الربويات أم لا، وليس هذا المقام للكلام عن الربويات.
حكم بيع التقسيط:
من خلال ما سبق يتبين لنا جواز جزئيات بيع التقسيط بالنظر إليها مجردة عن بعضها بعضاً، وهنا سيتم النظر إليها مركبة مع بعضها، فيما يعرف ببيع التقسيط.
ومن خلال النظر في الأدلة يمكن أن نخلص إلى جواز بيع التقسيط للآتي:
1. حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة»(24)، والحديث له ألفاظ أتمها رواية أحمد والبيهقي، وهي هكذا: عن عمرو بن حريش الزبيدي عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قلت يا أبا محمد! إنا بأرض لسنا نجد بها الدينار والدرهم، وإنما أموالنا المواشي، فنحن نتبايعها بيننا، فنبتاع البقرة بالشاة نظرة إلى أجل، والبعير بالبقرات، والفرس بالأباعر، كل ذلك إلى أجل. فهل علينا في ذلك من بأس؟ فقال: على الخبير سقطت. «أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أبعث جيشاً على إبل كانت عندي. قال: فحملت الناس عليها، حتى نفدت الإبل، وبقيت بقية من الناس. قال: فقلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله! الإبل قد نفدت، وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم؟ قال: فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ابتع علينا إبلاً بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها، حتى ننفذ هذا البعث. قال: فكنت أبتاع البعير بالقلوصين، والثلاث من إبل الصدقة إلى محلها، حتى نفذت ذلك البعث. قال: فلما حلت الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم»(25). والحديث صريح في اجتماع الزيادة في الثمن مع الأجل في نفس البيع، وهو ما يجري في بيع التقسيط.
2. عموم ما تقدم في قصة بريرة حيث دل الحديث بعمومه على جواز بيع التقسيط بغض النظر عن وجود زيادة في الثمن أم لا، إذ لو كانت الزيادة مع الأجل محرمة لاستفصل النبي- صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال، ينـزل منـزلة العموم في المقال.
3. عموم ما تقدم في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» فقد دل بعمومه على جواز الزيادة في الثمن، إذ لم يشترط النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون السلم بالسعر الأصلي من دون زيادة، وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم ببيان أن يكون الوزن والكيل معلوماً في السلم، والأجل كذلك. وقد وجد في السلم الأجل، وسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مقدار الثمن، فدل على جواز أن يكون الثمن زائداً، إذ لو كان ذلك محرماً لبيَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولما أخّر بيان ذلك، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.
4. الأصل هو الجواز إلا ما جاء النص بمنعه، ولم يأت هنا.
ولكن ينبغي أن يُقيَّد هذا الجواز بشروط وضوابط، هي:
شروط وضوابط لجواز بيع التقسيط مع الزيادة في الثمن:
1. أن يكون البيع مستوفياً لشروطه، من التراضي بين الطرفين، ومن تملك كل منهما لما تحت يده، أو يكون موكلاً بالتبايع به، ومن معرفة الثمن والسلعة.
2. أن يكون هذا البيع واقعاً في السلع التي أحل الله -عز وجل- بيعها وشراءها.
3. أن يكون الثمن معلوماً عند عقد البيع، وكذا الأقساط والأجل.
4. أن يكون الثمن غير قابل للزيادة، إذا تأخر المشتري عن تسليم الأقساط، وإلا كان ذلك من الربا، ولكان هذا داخلاً في النهي عن بيعتين في بيعة.
5. إذا كان المشتري سيعجل الأقساط، فلا يجوز له أن يشترط على البائع أن يضع عنه شيئاً من الزيادة المتفق عليه، وهذه المسألة هي التي تسمى عند العلماء بمسألة ضع وتعجل، وإلا كان ذلك مؤدياً إلى عدم الجزم بالثمن، ولكان داخلاً أيضاً في النهي عن بيعتين في بيعة.
والله تعالى أعلى وأعلم، وهو الموفق للصواب.
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي: علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس.
الاثنين14- ذو القعدة 1427هـ، 4/ 12/ 2006م.
مراجعة: علي عمر بلعجم.20/ 12/ 2006م.
___________________
(1) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 422).
(2) لسان العرب (8/ 23)، وانظر: الصحاح في اللغة (1/ 60).
(3) لسان العرب (7/ 377).
(4) تاج العروس (1/ 4968)، لسان العرب (7/ 377).
(5) صحيح البخاري 7/ 386، برقم: 2023، صحيح مسلم 8/ 9، برقم: 2762.
(6) سنن الدارقطني 3/ 71، برقم: 269، قال الألباني في إرواء الغليل (5/ 220): ضعيف.
(7) الاستذكار (6/ 441) قال أَبو عبيدة يعني النَّسِيئةَ بالنَّسِيئةِ، وكَلأَ الدَّيْنُ أَي: تَأَخَّر كَلأً، والكالِئُ والكُلأَة: النَّسيِئة والسُّلْفةُ. انظر: لسان العرب (1/ 145).
(8) صحيح البخاري 7/ 334، برقم: 1990، صحيح مسلم 8/ 257، برقم: 2968.
(9) صحيح مسلم 8/ 258، برقم: 2969.
(10) صحيح البخاري 7/ 492، برقم: 2086، صحيح مسلم 8/ 309، برقم: 3010.
(11) لسان العرب (12/ 289).
(12) المحيط في اللغة (2/ 265).
(13) لسان العرب (12/ 289).
(14) تاج العروس (1/ 7757).
(15) الروض المربع (2/ 136).
(16) مغني المحتاج (2/ 102).
(17) الكافي في فقه ابن حنبل (2/ 62).
(18) صحيح البخاري 9/ 233، برقم: 2517، صحيح مسلم 8/ 292، برقم: 2997.
(19) مسند أحمد 39/ 75، برقم: 18286 عن خالد بن سعيد، والحديث مرسل، وقد خلص شعيب الأرنؤوط إلى أن الصنابحي هذا هو أبو عبد الله، وأنه تابعي، وهو غير الصنابح بن الأعسر الصحابي، ثم قال في تحقيقه للمسند (31/ 414، برقم: 19066) أن خالداً في هذا السند تحريف وأورده بلفظ مجالد فقال: في (م) خالد، وهو تحريف.
(20) السنن الكبرى للبيهقي (4/ 113)، مصنف ابن أبي شيبة (3/ 18) عن مجالد بن سعيد، قال أحمد بن حنبل: ليس بشيء يرفع حديثاً كثيراً لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: لا يحتج بحديثه، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: ضعيف، واهي الحديث، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبي عن مجالد بن سعيد، يحتج بحديثه؟ قال: لا، وقال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: ليس بالقوي. انظر: تهذيب الكمال (27/ 222).
(21) سنن الترمذي 5/ 48، برقم: 1179، سنن أبي داود 9/ 230، برقم: 2937، قال الألباني: صحيح. انظر: إرواء الغليل 5/ 128، برقم: 1287.
(22) انظر: صحيح البخاري (7/ 473).
(23) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 52) وما بعدها.
(24) سنن أبي داود (9/ 194)، برقم: 2913، المستدرك على الصحيحين للحاكم (5/ 449)، برقم: 2300. وضعفه الألباني في وضعيف سنن أبي داود (7/ 357)، برقم: 3357.
(25) مسند أحمد (14/ 267) برقم 6729، السنن الكبرى
Post a Comment